عينــــك… يا حاسد تنعمــــــي

إكران، طالبة من كوريا الجنوبية، التقيتها بجامعة إكستر بجنوب غرب بريطانيا، كانت تعد اطروحة دكتوراه عن آثار العولمة على أنماط الزواج عند القاهريين بعد قضاء سنة في القاهرة لإجراء الدراسة الميدانية عادت إكران بمجموعة تسجيلات لأغاني الأفراح المصرية تحديدا، وقد استعانت بي لترجمة كلمات الأغاني. وأثناء جلساتنا لمحاولة ترجمة الكلمات لفتت إكران نظري إلى ظاهرة لم أكن أعطيها انتباها ولم أحاول تحليلها. قالت إكران لماذا كل الأغاني بها مقطع عن عدو أو شخص يضمر الشر؟؟ والله سؤال في محله ياإكران…علي من يخطر؟؟ إكران لم تسأل لمجرد إشباع فضول، فهي كانثروبولوجية كانت تسعى لمعرفة المزيد عن خصائص وملامح المجتمع محل الدراسة وعن الخصائص الإجتماعية والذهنية  والنفسية لإنسان هذا المجتمع.

نحن نولد ومعنا عدو…لاندري أين يكمن ولا من هو…نحن أحسن من يصنع عدو لنفسه…هذا العدو عادة مانسميه الحاسد. نرى أن كل عدو حاسد ، غير أننا نرى أنه ليس كل حاسد عدو. كأننا نؤمن بأنه كلما كان هناك فرحا بنجاح أو زواج أو وظيفة أو ختان كان هناك حاسدا يريد بل يتمنى زوال هذا الفرح. وهكذا نعيش حالة بارانويا مستديمة تجعل الحذر والشك هما أساس علاقاتنا مع الآخرين وتدفعنا للتوهم بأننا الأحسن والأفضل والأجمل والأنقى والأشرف….إلى آخر القائمة وأن الآخرين هم الشر والفشل والعار والخزي.

الظاهرة سائدة في سائر المجتمعات التي يطلق عليها علماء النفس والإجتماع والإقتصاد والسياسية والأنثروبولوجيا، بالإجماع، مجتمعات متخلـّفة.  وبالنتيجة فإن إنسان هذه المجتمعات هو إنسان متخلّف. ووفقا لتحليل الدكتور مصطفى حجازي فإن هذا الإنسان-وهو يسميه الإنسان المقهور- يعاني من حالة قهر مقيمة. والخصائص الذهنية والنفسية لهذا الإنسان ماهي إلا نتاج لدهور طويلة من القمع والقهر والكبح والعجز والاحباط والكبت المتواصل، من قوى الطبيعة إلى التقاليد والأعراف العشائرية بمرورا بالمحرمات الدينية وانتهاءا بالقوانين التسلطية القمعية للأنظمة الحاكمة.

يعاني الإنسان المقهور من عدد من التناقضات الداخلية التي تجعله يعيش حالة إضطراب وانعدام لثقة أصيلة وحقيقية بالذات. العالم بالنسبة لهذا الإنسان ينقسم إلى عالمين متناقضين (الأنا  أو النحن والآخر) وعادة ما تستحيل فرص التكامل والتقارب بين هذين العالمين. العالم الأول يكون هو مصدر الأمن والشعور بالإنتماء، هو مصدر الهوية، وهو بالتالي المرجع والملاذ. والعالم الآخر هو مصدر الخطر والشر والتهديد، والعلاقة معه عدائية، والموقف منه تهجمي تدميري…وكل قوم بما لديهم فرحين.

الأنا أو النحن قد تكون الذات أو العائلة أو العشيرة أو حتى شلة معينة من الأصدقاء، أو أولاد الحارة الواحدة، أو جمهور فريق من فرق كرة القدم، بمعنى الفرد والجماعة التي ينتمي إليها سواء بأختياره (الأصدقاء) أو غصبا عن خشمه (الجماعة الإجتماعية). ويقوم الإنسان المتخلف بتوجيه تناقضاته الداخلية نحو آخر يتخذ منه عدو (الحساد أو العوازل، عيال الشارع لاخر، مشجعي الفريق المنافس…إلخ). أيضا من الخصائص النفسية لهذا الإنسان أنه يعمل كل مايستطيع لكي يتمكن من الشعور بالأستعلاء والتفوق على الآخرين ويلجأ كثيرا لإثارة غيرتهم وبالتالي اعتبارهم حساد وعوازل يريدون له الشر ولايتمنون له النجاح والفرح والغنى. هذا الإنسان لايشعر بالقيمة وجدارة الوجود إلا بتوهم وجود عدو له يترصد تحركاته ويتتبع أخباره ويتميز غيظا من نجاحه وثروته ووجاهته وغير ذلك، وكلما كان عنده قدر من الثروة أو الحظ أو الجمال وحسن الطلعة، كلما زاد تصوره لوجود الحاسد..يقول د. حجازي “يجد الإنسان المقهور في الحسد تفسيرا لظواهر فجائية من نوع نكبات تلم به وبذويه أو ممتلكاته، وتصيبه بالضرر، أو تذهب بما يكون حظى به من خير أو جاه أو امتياز على الآخرين، وهو تفسير ينال الرضى عند هذا الشخص اذ يسمح لعدوانيته أن تتفجر بدون رادع، متخذة طابع الدفاع عن النفس من شر الحاسد إذا حسد. والتفسير بالحسد يرضي المحسود لإنه يشعره بالامتياز عن الآخرين…إذا كان محسودا فلابد أن يكون ذلك لتفوق أو فضل من جاه أو ولد…وبالتالي تشعره وهميا بارتفاع مكانته، بينما تسقط المهانة الذاتية على الحاسد”[1].

أي نجاح أو فرح لابد أن يقابله حسود مقهور أو متكاد على حد تعبير اللهجة المصرية. الأمثلة في أغاني الأفراح التي جلبتها إكران معها ذكر فيها العدو في صيغة الجمع كما ذكر فيها الحسود، غير أنه يبدو هناك فرق بين من يوضع في خانة الأعادي ومن يوضع في خانة الحساد، وهذا لا استطيع التفصيل فيه لإني لا أعلم شيئ عن المجتمع المصري، فالمأثور الليبي يركز على الحسد والحاسد والعين. الأغاني التي ذكر فيها الأعادي على سبيل المثال لا الحصر: ’والفرح جانا… واتكاد عدانا‘ في أغنية زغروتا حلوة، وفي أغنية دقوا المزاهر يالله تم ذكر الحسود والعدو معا، حيث تقول كلمات الأغنية ’عين الحسود فيها عود ياحلاوة….عريس قمر وعروسته نقاوة….احنا الليلة دي….كدنا الأعادي‘ وفي وسط ابيات أغنية مبروك عليك يامعجباني ياغالي هناك ذكر للحسود وقد خلت الأغنية من كلمة الأعادي، تقول الكلمات ’والشمع قايد والزهور حواليكو….من عين حسودكو قلبي سمى عليكو‘. .. ياريت صورت وجه إكران عندما ترجمت لها مغزى هذه الكلمات…أكيد انتابها الشك فيما اقوله و ربما تكون راجعت شخص آخر للتحقق من صحة الترجمة…قالت لي هل هم في معركة؟ صدقت. أما أغاني الأفراح الليبية فهي تركز على الحسود وتتقى عينه وحسده بذكر التعاويذ أو بالصلاة على النبي أو بذكر رموز لفسخ مفعول الحسد والعين. ولكن المأثور الليبي لايعتبر الحاسد عدو لأن الليبيين يعتقدون أنه حتى الحبيب قد يرميك بعين تدمـّر كل مكتسباتك فيقولون ’ عين حسود ولا عين ودود‘ أي أن عين الودود أو القريب تكون أقوى فتكا من عين الحسود ذاته، وهذ يقابل المثل المصري الذي يقول ’مايحسد المال إلا أصحابه‘. كلمات أغاني الأفراح في ليبيا عادة ما تبدأ بالصلاة على النبي للتحصين ضد العين. قديما كانت وصلات الأغاني تبدأ بأغنية ’اللهمصلي عالنبي…عينك ياحاسد تنعمي‘، ثم تتوالى الأغاني التي تضع شوكة في عين الحسود والعين المعيانة، منها ’ …والحاسد في عينه سلـّة‘ حيث يعتقد الليبيون أن ذكر الشوك والسل والخشب من شأنه أن يتصدى للعين الحاسدة، ثم هناك أغنية تقول ’عرجون الفل حصل عندي…ياحاسد برّد بالهندي‘  والهندي هو التين الشوكي لمن لايعرف اللهجة الليبية…فذكر كلمة الهندي يتضمن كلمة شوكة. وعن العروس أو عن احدى المشاركات بالرقص تقول أغينة  ’جدي الريم طلع يتدرّج…يامقهور تعال تفرّج‘ .و لم تخل الأغنية الإذاعية من ذلك حيث تقول كلمات أغنية جيتي وجيتينا نورتي يابنت الحور (أنت كلك عفة..نورتينا في يوم الزفة…بنورك ياحلوة ياخفة…خليتي الحاسد مقهور). بعض الأغاني تترجم الحرص على شعور المتواجدين في الحفل وتتجنب الدعاء المباشر ضد الحاسد أو المعيان ولكنها تعمد إلى ذكر كلمات لرموز يعتقد أنها تبطل العين، وأقوى هذه الرموز كما يعتقد الموروث الليبي القرن والخمسة والحوت، وهو السمك. وحتى لاتبدو كلمة حوت تجريحية للحضور فإنها تذكر ضمن أشياء أخرى لاتعتبر من رموز إبطال الحسد والتصدي للعين، نذكر على سبيل المثال أغنية تقول ’البارح أيش تعشينا….حوت وتن وسردينا‘ فالأغنية هنا لاتعبر عن المناسبة أي كانت ولكنها استهلال لابد منه للتحصين، وهناك أيضا ’اطّرطش ياحوت الموجات…

على راس قائمة الأشياء التي تشريها العائلات التي تجهز لحفلة عرس أو دخول بيت جديد أو ختان أو تخرج يأتي البخور والشبّة، فحامل أو حاملة البخور يتقدم الموكب ليحرق البخور أمام الموجودين أو المتفرجين أو حتى المدعوين توجسا من وجود حساد وردعا لإي عين كامنة. أطرف تعبير عن هذا التوجس جاء على لسان الست فرنسا والدة اللنبي، التي لعبت دورها السيدة عبلة كامل، حيث عبرت عن خوفها من دخول زفة العريس للحارة وما قد يلحق بهم نتيجة القر والحسد: نقول ’ياساتر استر من دخول الحارة…دي حارة وحشة والنسوان قرّارة‘ وهي تعني بكلمة وحشة هنا أن أهل الحارة نظرتهم مدمّرة ونسوانها بتقر كتير، والقر في اللهجة المصرية هو تعداد نعم الآخرين والحديث عنها.

في بعض المجتمعات يعلق الناس رموز معينة كحدوة الفرس مثلا أو إقتناء قطة سوداء لجلب الحظ الحسن أما في مجتمعاتنا فنعلق الرموز لطرد سؤ الحظ ولإبعاد شر العين المعيانة، والتي تشكل تهديدا لصحة الفرد ورزقه وأولاده. في ليبيا يعلقون قرن غزال أو أي قرن، وقد يعلقون يد باصابع مفتوحة وهناك من يعلق سمكة (حوتة). أما المصطلحات التي استحدثناها لدرء شر العين فهي إن نعدّها فلن نحصيها، خذ مثلا: ماشاء الله، تبارك الله، الله أكبر، الله يبارك،  الصلاة عالنبي، يخزي العين، عينى عليك باردة، عيني ماتضرك، بسم الله ماشاءالله، اللهم صلي عالنبي، اخميسة وخميس في عين ابليس، حويتة واخميسة وقرين، الحوت والصبارس والليم القارص… القاموس مليان. والتعبير الموضة في ليبيا الآن ’تبارك الرحمن‘. والمشكلة في محادثاتك مع الناس انك تضطر للإعتذار بالإسراع بذكر كلمة حاشا عيونك حالما تنطق بكلمة خمسة أو عشرة، أما إذا ذكرت كلمة حوت أو قرن فالإعتذار يمسي واجب لابد منه…وقد توصف بالوقاحة إذا ذكرت كلمة حوت أو قرن أو حتى قرين دون أن تقول حاشا عيون المستمعين…يعنى حاشا لإعينكم أن تكون من الأعين الشريرة ذوات القوة التدميرية الرهيبة. لم أسمع ليبي ينطق كلمة حوت أو قرن إلا ويقرنها ب(حاشا عيونك)…حتى لوكنت في قائمة الحساد ويعتبرك قرّار وعينك ماتطيح وطا (ماتوقعش الأرض). الرمز الآخر الذي يفسخ الحسد هو الملح، حيث يقولون في مصر حصوة ملح في عين اللي مايصلي عالنبي.  ذات مرة كنت اتناول غداءا مع مجموعة من الطلاب في جامعة إكستر وكان هناك صديق من تونس، وقد كان يشير إلى الملاحة التي بجانبي ويطلب مني تمريرها له ويقول أعطيني هذه دون أن ينطق اسمها، وقد رأيت أنه انزعج نوعا ما عندما سألته هل تريد الملح؟ فقال مبتسما: اشش..قولي ربح ماتقوليش ملح.

الليبيون يعتبرون العين أقوى تأثيرا من الحسد، لإن الحسد ينقلب على الحاسد (زيدي جمر يانار الحسود…نار الحسد عالحاسد تعود)، أما العين فلا يردها شيئ وإصاباتها قاتلة ودمارها شامل. يقول الليبيون ماري ولا تكون حسود، وماري تعني قلد أي إذا أعجبك فعل أو انجاز لشخص، لاتحسده بل قلده، كن طموحا ومثابرا مثله حتى يصيبك ما أصابه من خير وحتى لاتأكلك نار الحسد، ويقولون كذلك جاور حسود ولاتجاور معيان.

ولتشطيب هذا الساندويش سابهره بهذه النكتة التي يتداولها الليبيون عن العين: قيل أن رجلا حاد البصر كان يحسد جاره على حجم قطيع الأغنام الذي يمتلكه، وحاول متعمدا إصابة القطيع بالعين لكن لم يفلح لإن عينه كانت خلب لاتصيب ولا تضر، لذلك استعان بشخص معروف بعينه القوية اللي مااتطيحش وطا على قول الليبيين وأتى بالرجل وقال له بالحرف ’نبـّيك تضرب لي هاذاك السعي بعينك القوية‘ وكان السعي (قطيع الغنم) على مسافة بعيدة فلم يستطع الرجل المعيان رؤيته ليضربه بالعين لكنه قال للرجل باندهاش ومن كل قلبه وعينه..’بلااااء…تقدر اتشوف لعند غادي..!!!(معقولة تستطيع أن ترى على بعد هذه المسافة)!! تصوروا ماذا حدث للرجل ذو البصر الحاد!!…فقد بصره….فعلا، عينك ياحاسد تنعمي

العين تحفظكم


[1]  حجازي، مصطفى ، التخلف الإجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، (معهد الإنماء العربي، بيروت، ط1، 1976)، ص. 23

1